فصل: مُقَدّمَة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير




.مُقَدّمَة:

بسمِ اللهِ الرَّحْمَن الرحيمِ.
{رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا}.
الْحَمد لله رَافع منار الْأَحْكَام، ومظهر دينه بأقوى عُرًى وإحكام، ومُشَيِّده بحفاظ جَهَابِذَة أَعْلَام، مستمرين مدى الدهور والأعوام.
نحمده عَلَى ذَلِكَ كُله وَعَلَى سَائِر الإنعام، ونشكره عَلَى أَن جعلنَا مِمَّن تَصَدَّى لجمع السّنَن الْكِرَام.
ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، شَهَادَة مستمرة عَلَى الدَّوَام، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أفضل الْأَنَام، صلَّى الله عَلَيْهِ، وَعَلَى آله، وأصحابِه، وأزواجِه، وذرِّيَّاتِه، وَأَتْبَاعه الغُرِّ الْكِرَام.
وبعدُ:
فَإِن أولَى الْعُلُوم- بعد معرفَة كتاب الله- سنة الرَّسُول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ إِذْ هِيَ مبينَة للْكتاب الْعَزِيز، الَّذِي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد}.
وَلذَلِك أدلةٌ ظَاهِرَة، وبراهينُ متظاهرة:
قَالَ تَعَالَى: {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم}.
وَقَالَ: {وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ}.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ فِي حَدِيث طَوِيل: «إنَّ مَا حَرَّم رسُولُ اللهِ كَمَا حَرَّم اللهُ عزَّ وجلَّ».
حَدِيث صَحِيح من غير شكّ وَلَا مرية، أودعهُ الْأَئِمَّة: التِّرْمِذِيّ فِي جامعه وحسَّنه، وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه وصحَّحه، وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح.
هَذَا مَعَ اتِّفَاق أهل الْحل وَالْعقد عَلَى أَن من شَرط الْمُجْتَهد- من القَاضِي والمفتي- أَن يكون عالِمًا بِأَحَادِيث الْأَحْكَام، ليعرف بهَا الْحَلَال من الْحَرَام، وَالْخَاص من الْعَام، وَالْمُطلق من الْمُقَيد، والناسخ من الْمَنْسُوخ، وَشبه ذَلِكَ.
وَقد نَدَبَ الشَّارِع- عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام- إِلَى نقلهَا، وحَثَّهم عَلَى حفظهَا، وتبليغها من لم يشهدها، فَقَالَ فِي خطبَته حجَّة الْوَدَاع: «هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: فَلْيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُم الغَّائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سامع».
حَدِيث صَحِيح بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة، أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا.
وَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا: «نَضَّرَ اللهُ امْرأ سمع مَقَالَتي، فَحَفِظَهَا، وَوَعَاهَا، فأَدَّاها إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حاملِ فقه غيرِ فَقِيه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ».
رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَقَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَو آيَة».
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه.
وَقَالَ: «تَسْمَعُون وَيُسْمَع مِنْكُم، وَيُسْمَعُ مِمَّن يسمع مِنْكُم».
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه، وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك، وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
فامتثلت الصَّحَابَة حينئذٍ- الَّذين هم خير قُرُون هَذِه الْأمة، بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام- فحفظوا عَنهُ أَحْوَاله وأقواله وأفعاله، امتثالًا لأَمره، وابتغاء ثَوَابه وأَجره.
ثمَّ فعل ذَلِكَ بعدهمْ التابعون وتابعوهم، قبيلًا بعد قبيل، وجِيلًا بعد جيل، تلقوا ذَلِكَ عَنْهُم، واستفادوه مِنْهُم- رَضِيَ اللَّهُ عَنَّا وعنهم.
لَكِن دخل فِي ذَلِكَ قوم لَيْسُوا من أهل هَذَا الشَّأْن، وَلَا جَرْيَ لَهُم فِي هَذَا الميدان، فأخطئوا فِيمَا نقلوا وحَرَّفوا، وَرُبمَا وضعُوا، فَدخلت الآفة من هَذَا الْوَجْه، وَاخْتَلَطَ الصَّحِيح بالسقيم، والمجروح بالسليم، فَحِينَئِذٍ أَقَامَ الله سُبْحَانَهُ- وَله الْحَمد والمِنَّة- طَائِفَة كَبِيرَة من هَذِه الْأمة، هم نُجُوم للدِّين وعَلَمٌ للمسترشدين، فدوَّنوا التصانيف المبتكرة، المبسوطة والمختصرة، ونظروا فِي رجالها- جرحا وتعديلًا، وانقطاعًا ووصلًا- بِالنّظرِ التَّام، وبذلوا وسعهم فِي ذَلِكَ، وَقَامُوا بِهِ أحسن قيام، أعظم الله أَجرهم، وَلَا خَيَّب سعينا وسعيهم.
وهم مستمرون عَلَى ذَلِكَ مدى الدهور والأعوام، من زَمَنه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا والذهاب، بإخباره عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام حَيْثُ قَالَ: «لَا تَزَالُ طائفةٌ من أُمَّتي ظاهِرينَ عَلَى الحقِّ، لَا يَضُرُّهُم مَنْ خَذَلَهُم، حتَّى تَقُومَ السَّاعةُ».
فَكَانَت هَذِه الطَّائِفَة كَمَا وَصفهم عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْخَبَر الْمَرْوِيّ عَنهُ، مُرْسلا من جِهَة إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن العذري، وَمُسْندًا من جِهَة أبي هُرَيْرَة، وَعبد الله بن عَمْرو- كَمَا رَوَاهُمَا الْعقيلِيّ.
قَالَ عبد الْحق: وَالْأول أحسن. ونَازَعَه ابْن الْقطَّان، وَفِيه وَقْفَة، فقد سُئل أَحْمد عَنهُ، فَقَالَ صَحِيح: «يَحْمِلُ هَذَا العِلْم مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُه، يَنْفُون عَنْه تَحْرِيف الغالين، وانْتِحَالَ المُبْطِلِيْن، وَتَأْوِيل الجاهِلِيْن».
وَمَنَّ الله- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَله الْحَمد والمِنَّة- عَلَى هَذِه الطَّائِفَة بِالْحِفْظِ الوافر، كالبحر الزاخر.
وهاك نبذة من حَالهم، لتعرف قدرهم، واجتهادهم ومحلهم:
قَالَ أَبُو زرْعَة: حُزِرَتْ كُتبُ الإِمام أَحْمد يَوْم مَاتَ، فبلغت اثْنَي عشر حملا وعدلا، كل ذَلِكَ كَانَ يحفظه عَن ظهر قلب.
قَالَ: كَانَ يحفظُ ألفَ ألفَ حَدِيث. فَقيل لَهُ: وَمَا يدْريك؟ قَالَ: ذَاكَرْتُه فأخذتُ عَلَيْهِ الْأَبْوَاب.
وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل: قَالَ لي أبي: خُذ أَي كتاب شِئْت من كتب وَكِيع، من المُصَنّف، فَإِن شِئْت تَسْأَلنِي عَن الْكَلَام حتَّى أخْبرك بِالْإِسْنَادِ، وَإِن شِئْت تَسْأَلنِي عَن الإِسناد حتَّى أخْبرك بالْكلَام.
وَحفظ الإِمَام الشَّافِعِي الْمُوَطَّأ فِي ثَلَاثَة أَيَّام، وَالْقُرْآن فِي سَبْعَة أَيَّام، كَمَا نقل عَن الإِمام فَخر الدَّين الرَّازِيّ.
وَكَانَ يَحْيَى بن معِين يَقُول عَن الْأَثْرَم الْحَافِظ: إِن أحد أَبَوَيْهِ كَانَ جِنِّيًّا. يَعْنِي لقُوَّة حفظه.
وَهُوَ أحفظ من أبي زرْعَة، وأتقن. كَمَا قَالَه إِبْرَاهِيم الْأَصْفَهَانِي.
وَكَانَ أَحْمد بن نصر الخَفَّاف يذاكر بِمِائَة ألف حَدِيث.
وَكَانَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يملي سبعينَ ألف حديثٍ حفظا، وأملى مرّة أحد عشر ألف حديثٍ من حفظه، ثمَّ قَرَأَهَا مرّة أُخْرَى، فَمَا زَاد حرفا وَلَا نقص حرفا، وَقَالَ مرّة: أحفظ مَكَان مائَة ألف حَدِيث كَأَنِّي أنظر إِلَيْهَا، وأحفظ مِنْهَا سبعين ألف حَدِيث من ظهر قلبِي صَحِيحَة، وأحفظ أَرْبَعَة آلَاف حَدِيث مزوَّرة. فَقيل لَهُ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: لأجل إِذا مرَّ بِي مِنْهَا حَدِيث فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، فَلَيْتُهُ مِنْهَا فَلْيًا.
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: مَا استَوْدَعْتُ أُذُنِي شَيْئا إلَّا حفظته، حتَّى أَمُرَّ بِكَلِمَة كَذَا- قَالَهَا- فأسد أُذُنِي، مَخَافَة أَن أحفظها.
وَفِي رِوَايَة عَنهُ: حتَّى أَمُرَّ بالحائك. يَعْنِي: فأسدّ أُذُنِي.
وَكَانَ أَبُو زرْعَة يحفظ سِتّمائَة ألف حَدِيث، كَمَا شهد لَهُ بذلك الإِمام أَحْمد، وَقَالَ فِي حَقه: مَا جَاوز الجسر أفضل مِنْهُ.
وَحلف رجل بِالطَّلَاق أنَّ أَبَا زرْعَة يحفظ مِائَتي ألف حَدِيث، فَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا يَحْنَث.
وَقَالَ مرّة: أحفظ مِائَتي ألف حَدِيث كَمَا يحفظ الْإِنْسَان {قل هُوَ الله أحد}، وَفِي المذاكرة ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث.
وَقَالَ أَيْضا: فِي بَيْتِي مَا كتبته مُنْذُ خمسين سنة، وَلم أطالعه مُنْذُ كتبته، وَإِنِّي أعلم فِي أَي كتاب هُوَ، وَأي ورقة، وَأي صفحة، وَفِي أَي سطر هُوَ، وَمَا سُمع أَو تُلي شَيْء من الْعلم إلَّا وَعَاه قلبِي، وَإِنِّي كنت أَمْشِي فِي سوق بَغْدَاد، فَأَسْمع من الغرف الْمُغَنِّيَات، فأضع أُصْبُعِي فِي أُذُنِي مَخَافَة أَن يَعِيَه قلبِي.
وَقَالَ البُخَارِيّ: أحفظ مائَة ألف حَدِيث صَحِيح، وأحفظ مِائَتي ألف حَدِيث غير صَحِيح.
وَقَالَ أَبُو أَحْمد بن عدي: سَمِعت عدَّة مَشَايِخ يحكون: أَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ قدم بَغْدَاد، فَسمع بِهِ أَصْحَاب الحَدِيث، واجتمعوا وعمدوا إِلَى مائَة حَدِيث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وَجعلُوا متن هَذَا الْإِسْنَاد لإسناد آخر، وَإسْنَاد هَذَا الْمَتْن لمتن آخر، ودفعوها إِلَى عشرَة أنفس، فابْتَدَرَ رجل من الْعشْرَة، فَسَأَلَهُ عَن حَدِيث من تِلْكَ الْأَحَادِيث، فقَالَ: لَا أعرفهُ. فَسَأَلَهُ عَن آخر، فَقَالَ: لَا أعرفهُ. فَمَا زَالَ يلقِي عَلَيْهِ وَاحِدًا بعد واحدٍ حتَّى فرغ، وَالْبُخَارِيّ يَقُول: لَا أعرفهُ. وَكَانَ بعض الْفُقَهَاء يَقُول: الرجل فهم. وَبَعْضهمْ يقْضِي عَلَيْهِ بِالْعَجزِ. ثمَّ انْتُدِبَ رجل آخر، فَسَأَلَهُ عَن الْأَحَادِيث وَهُوَ يَقُول فِي كل حَدِيث: لَا أعرفهُ. حتَّى فرغ من عشرته، ثمَّ الثَّالِث، ثمَّ الرَّابِع إِلَى تَمام الْعشْرَة، وَالْبُخَارِيّ لَا يزيدهم عَلَى: لَا أعرفهُ. فَلَمَّا فرغوا الْتفت البُخَارِيّ إِلَى الأول فَقَالَ: أما حَدِيثك الأول فَهُوَ كَذَا، وحَدِيثك الثَّانِي كَذَا، وَالثَّالِث كَذَا، وَالرَّابِع كَذَا، حتَّى أَتَى عَلَى تَمام الْعشْرَة، فَرد كل متنٍ إِلَى إسنادٍ، وكل إِسْنَاد إِلَى متنٍ، وَفعل بِالْآخرِ مثل ذَلِك، فَأَقرَّ النَّاس لَهُ بِالْحِفْظِ، وأذعنوا لَهُ بِالْفَضْلِ.
وَكَانَ البُخَارِيّ يخْتَلف إِلَى مَشَايِخ الْبَصْرَة وَلَا يكْتب، فَسَأَلُوهُ: لِمَ لَا تكْتب؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِم جَمِيع مَا سمع من حفظه، وَكَانَ يزِيد عَلَى خَمْسَة عشر ألف حَدِيث.
وَأخرج مُسلم الصَّحِيح من ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث مسموعة، كَمَا أقَرَّ بِهِ هُوَ فِيمَا نَقله ابْن نقطة عَنهُ بِإِسْنَادِهِ.
وَحفظ أَبُو دَاوُد- يَعْنِي: الطَّيَالِسِيّ- أَرْبَعِينَ ألف حَدِيث، وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي عشرَة آلَاف، وَكَانَا شربا البَلاَذُر لأجل الْحِفْظ، فجَذِمَ أَبُو دَاوُد، وبَرِصَ عبد الرَّحْمَن. وَقَالَ عمر بن شَبَّة: كتبُوا عَن أبي دَاوُد- يَعْنِي الطَّيَالِسِيّ- أَرْبَعِينَ ألف حديثٍ، وَلَيْسَ مَعَه كتاب.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد- يَعْنِي- السجسْتانِي: كتبت عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسمِائَة ألف حَدِيث، انتخبت مِنْهَا مَا تضمنته السّنَن، جمعت فِيهِ أَرْبَعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حَدِيث.
وَكَانَ عبد الله ابْنه من الْحفاظ، أَمْلَى ثَلَاثِينَ ألف حَدِيث من حفظه، فَإِنَّهُ لَمَّا خرج إِلَى سجستان، اجْتمع إِلَيْهِ أَصْحَاب الحَدِيث، وسألوه أَن يُحَدِّثَهم فَأَبَى، وَقَالَ: لَيْسَ معي كتاب. فَقَالُوا: ابْن أبي دَاوُد وَكتاب! فأثاروه، فأملى عَلَيْهِم هَذَا الْقدر، ولَمَّا قَدِم بَغْدَاد قَالَ البغداديون: مَضَى يلْعَب بِالنَّاسِ، ثمَّ فَيَّجُوا فَيْجًا، اكتروه بِسِتَّة دَنَانِير إِلَى سجستان، فَكَتَبُوا بِهِ نُسْخَة، فَخَطَّئوه فِي سِتَّة أَحَادِيث، مِنْهَا ثَلَاثَة حَدَّث بهَا كَمَا حُدِّث، وَثَلَاثَة أخطأَ هُوَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
ولمَّا مَاتَ صُلِّي عَلَيْهِ ثَمَانُون مرّة، فحُزِر الْجمع، فَزَاد عَلَى ثَلَاثمِائَة ألف.
وَقَالَ مَعْمَر: اجْتمعت أَنا وَشعْبَة وَالثَّوْري وَابْن جريج، فَقدم علينا شيخ، فأملى علينا أَرْبَعَة آلَاف حَدِيث عَن ظهر قلب، فَمَا أَخطَأ إلَّا فِي موضِعين، لم يكن الْخَطَأ مِنَّا وَلَا مِنْهُ، إنَّما الْخَطَأ مِمَّن فَوْقه. وَكَانَ الرجل: طَلْحَة بن عَمْرو الْحَافِظ.
وَكَانَ عبد الله بن مُوسَى القَاضِي الْمَعْرُوف بعَبْدَان، يحفظ مائَة ألف حَدِيث. كَمَا قَالَ أَبُو عَلّي الْحَافِظ.
وَقَالَ الشَّعْبي: مَا كتبتُ سَوْدَاء فِي بَيْضَاء إلَّا وَأَنا أحفظها، وَلَا حدَّثني رجلٌ بحديثٍ فأحببتُ أَن يُعِيْدَه عليَّ.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: مَا استعدت حَدِيثا، وَلَا شَككت فِي حديثٍ، إلَّا حَدِيثا وَاحِدًا، فَسَأَلت صَاحِبي، فَإِذا هُوَ كَمَا حفظت.
وَقَالَ عبيد الله بن عمر القَوَارِيري: أَمْلَى عليَّ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عشْرين ألف حديثٍ حفظا.
وحدَّث أَبُو عبد الله عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الله الخُتُّلي بِخَمْسِينَ ألف حديثٍ من حفظه.
ولَمَّا أَمْلَى جَعْفَر بن مُحَمَّد الفِرْيَابِي- الْحَافِظ الَّذِي طَاف الْبِلَاد شرقًا وغربًا- بِبَغْدَاد: كَانَ عدد المستملين ثَلَاثمِائَة وَسِتَّة عشر، وحُزِرَ الْجمع فَكَانُوا ثَلَاثِينَ ألفا، وَكَانَ الَّذين يَكْتُبُونَ عَنهُ نَحْو عشرَة آلَاف.
وَقَالَ هشيم: كنت أحفظ فِي الْمجْلس مائَة حَدِيث، وَلَو سُئلت عَنْهَا أجبْت.
وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ- صَاحب النَّسَب-:
حفظت مَا لَمْ يحفظه أحد، ونسيت مَا لَمْ ينسه أحد: كَانَ لي عمّ يعاتبني عَلَى حفظ الْقُرْآن، فَدخلت بَيْتا، وَحلفت أَنِّي لَا أخرج مِنْهُ حتَّى أحفظ الْقُرْآن، فحفظته فِي ثَلَاثَة أَيَّام، وَنظرت يَوْمًا فِي الْمرْآة، فقبضت عَلَى لحيتي لآخذ مَا دون القبضة، فَأخذت مَا فَوق القبضة.
وَقَالَ يزِيد بن هَارُون: أحفظ ثَلَاثَة وَعشْرين ألف حَدِيث. وحدَّث بِبَغْدَاد، فَحُزِر مَجْلِسه تسعين ألفا. وَقَالَ أَحْمد بن أبي الطّيب: سَمِعت يزِيد بن هَارُون الْحَافِظ وَقيل لَهُ: إِن هَارُون الْمُسْتَمْلِي يُرِيد أَن يُدخل عَلَيْك فِي حَدِيثك، فَدخل هَارُون، فَقَالَ: يَا هَارُون، بَلغنِي أَنَّك تُرِيدُ أَن تدخل عليَّ فِي حَدِيثي، فاجهد جهدك، لَا رَعَى الله عَلَيْك إِن رَعيْت، أحفظ ثَلَاثَة وَعشْرين ألف حديثٍ، لَا أقامني الله إِن كنت لَا أقوم بحديثي.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد، الْمَعْرُوف بِابْن عقدَة- الَّذِي قَالَ فِي حَقه الدَّارَقُطْنِيّ: أجمع أهل الْكُوفَة أَنه لم يُرَ من زمن عبد الله بن مَسْعُود إِلَى زَمَنه أحفظ مِنْهُ-: أَنا أُجِيب فِي ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث، وأذاكر بِالْأَسَانِيدِ، وَبَعض الْمُتُون، والمراسيل، والمقاطيع.
قَالَ ابْن عقدَة: وَدخل البَرْدِيجي الْكُوفَة، فَزعم أَنه أحفظ مِنَّا، فَقلت: لَا تُطَوِّل، نَتَقَدَّم إِلَى دكان وراق، وَنَضَع القَبَّان، ونزن من الْكتب مَا شئتَ، ثمَّ تُلْقَى علينا فنذكرها. فَبَقِيَ.
ولَمَّا انْتقل ابْن عقدَة إِلَى مَكَان آخر كَانَت كتبه سِتّمائَة حمل.
وَكَانَ إِسْمَاعِيل بن يُوسُف الدَّيْلَمي يحفظ أَرْبَعِينَ ألف حَدِيث، ويذاكر بسبعين ألف حَدِيث.
وَقَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: قَالَ لي الأزْهَري: كنت أحضر عِنْد أبي عبد الله الْحُسَيْن بن أَحْمد بن بكير، وَبَين يَدَيْهِ أَجزَاء كبار، فَأنْظر بَعْضهَا، فَيَقُول لي: أَيّمَا أحبّ إِلَيْك، تذكر لي متن مَا تُرِيدُ من هَذِه الْأَحَادِيث حتَّى أخْبرك بِإِسْنَادِهِ؟ أَو تذكر لي إِسْنَاده حتَّى أخْبرك بمتنه؟ فَكنت أذكر لَهُ الْمُتُون فيخبرني بِالْأَسَانِيدِ من حفظه، وَفعلت هَذَا مرَارًا كَثِيرَة.
قَالَ: وحُبِّب إليَّ الحَدِيث، حتَّى رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم، فَلم أقل: ادْع الله لي. وَإِنَّمَا قُلْتُ: يَا رَسُول الله، أَيّمَا أثبت فِي الحَدِيث، مَنْصُور أَو الْأَعْمَش؟ فَقَالَ: مَنْصُور. مَنْصُور.
وَقَالَ أَبُو حَفْص بن شاهين: صَلَّيْتُ خَلفه مرّة، فَافْتتحَ الصَّلَاة، ثمَّ قَالَ: نَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان لُوَيْن. فَقيل لَهُ: سُبْحَانَ الله! فَقَالَ: نَا شَيبَان بن فروخ الأُبُلِّي. فَقيل لَهُ: سُبْحَانَ الله! فَقَالَ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.
وَقَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: أَنا بشرى بن عبد الله الرُّومِي، قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر أَحْمد بن جَعْفَر بن سَلْم يَقُول: لَمَّا قَدِم علينا أَبُو مُسلم الكَجِّي أَمْلَى الحَدِيث فِي رحبة غَسَّان، وَكَانَ فِي مَجْلِسه سَبْعَة مستملين، يُبَلِّغ كل وَاحِد مِنْهُم صَاحبه الَّذِي يَلِيهِ، وَكتب النَّاس عَنهُ قِيَامًا بِأَيْدِيهِم المحابر، ثمَّ مُسِحَت الرَّحْبَة، وَحسب من حضر بمحبرة، فَبلغ ذَلِكَ نَيِّفًا وَأَرْبَعين ألف محبرة، سُوَى النَّظَّارة.
قَالَ ابْن سَلْم: وَبَلغنِي أَن أَبَا مُسلم كَانَ نَذَرَ أَن يتصدَّق إِذا حَدَّث بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم.
وَقَالَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان البَاغَنْدِي: أحفظُ ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث من حَدِيث رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَكَانَ الْحَافِظ أَبُو الْحُسَيْن عَاصِم بن عَلّي الوَاسِطِيّ يجلس عَلَى سطح المسقطات، ويركب مستمليه نَخْلَة، يستملي عَلَيْهَا. فَقَالَ يَوْمًا: نَا اللَّيْث بن سعد، فَأَعَادَ أَربع عشرَة مرّة، وَالنَّاس لَا يسمعُونَ، فحزر الْجمع، فَكَانُوا مائَة ألف وَعشْرين ألفا.
وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُسلم الجِعَابي: دخلت الرَّقَّة، وَكَانَ لي ثَمَّ قمطران كتب فأنفَذُت غلامي إِلَى ذَلِكَ الرجل الَّذِي كُتبي عِنْده، فَرجع الْغُلَام مغمومًا، فَقَالَ: ضَاعَت الْكتب. فَقلت: يَا بنيَّ، لَا تغتم، فَإِن فِيهَا مِائَتي ألف حديثٍ، لَا يُشْكَلُ عليَّ مِنْهَا حديثٌ، لَا إِسْنَادًا وَلَا متْنا.
وَكَانَ يُقَال: إِنَّه يحفظ مِائَتي ألف حَدِيث، ويجيب فِي مثلهَا.
وَقَالَ مرّة عَن نَفسه: أحفظ أَرْبَعمِائَة ألف حَدِيث، وأذاكر بستمائة ألف حَدِيث.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد السَّمرقَنْدِي: سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس جَعْفَر بن مُحَمَّد الْحَافِظ يَقُول: مَا رَأَيْت أحفظ من أبي عبد الله بن مَنْدَه، سَأَلته يَوْمًا: كم يكون سَماع الشَّيْخ؟ فَقَالَ: يكون خَمْسَة آلَاف مَنًّا.
وَقَالَ الجعابي: كنت بليد الْحِفْظ، فَقَالَ لي الْأَطِبَّاء: كُلِ الخَبزَ بالجُلَّاب. فأكلته أَرْبَعِينَ يَوْمًا بالغديات والعشيات، لَا آكل غَيره، فصفا ذهني، وصرت حَافِظًا، حتَّى صرت أحفظ فِي كل يَوْم ثَلَاثمِائَة حَدِيث.
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: بَلغنِي أَن الدَّارَقُطْنِيّ حضر فِي حداثته مجْلِس إِسْمَاعِيل الصَفَّار، فَجعل ينْسَخ جُزْءا كَانَ مَعَه، وَإِسْمَاعِيل يملي، فَقَالَ لَهُ بعض الْحَاضِرين: لَا يصحّ سماعك وَأَنت تنسخ. فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: فهمي للإِملاء غير فهمك. ثمَّ قَالَ: تحفظ كم أَمْلَى الشَّيْخ من حَدِيث إِلَى الْآن؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أَمْلَى ثَمَانِيَة عشر حَدِيثا. فَعُدَّت الْأَحَادِيث فَكَانَ كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، ثمَّ قَالَ: الحَدِيث الأول عَن فلَان عَن فلَان، وَمَتنه كَذَا، والحَدِيث الثَّانِي عَن فلَان عَن فلَان، وَمَتنه كَذَا. فَلم يزل يذكر أَسَانِيد الْأَحَادِيث ومتونها عَلَى ترتيبها فِي الإِملاء حتَّى أَتَى عَلَى آخرهَا؛ فتعجب النَّاس مِنْهُ.
وَقَالَ أَحْمد بن مَنْصُور: خرجت مَعَ أَحْمد بن حَنْبَل، وَيَحْيَى بن معِين، فَقَالَ يَحْيَى لِأَحْمَد: أُرِيد أختبر أَبَا نعيم. فَقَالَ: لَا تُرِد، الرجل ثِقَة. فَقَالَ: لابد لي. فَأخذ ورقة فَكتب فِيهَا ثَلَاثِينَ حَدِيثا من حَدِيث أبي نعيم، وَجعل عَلَى رَأس كل عشرَة مِنْهَا حَدِيثا لَيْسَ من حَدِيثه، ثمَّ جَاءُوا إِلَى أبي نعيم، فَقَرَأَ يَحْيَى عَلَيْهِ عشرَة، وَأَبُو نعيم سَاكِت، ثمَّ قَرَأَ الْحَادِي عشر، فَقَالَ أَبُو نعيم: لَيْسَ من حَدِيثي، اضْرِب عَلَيْهِ. ثمَّ قَرَأَ الْعشْرَة الثَّانِيَة، وَأَبُو نعيم سَاكِت، فَقَرَأَ الحَدِيث الثَّانِي، فَقَالَ: لَيْسَ من حَدِيثي، اضْرِب عَلَيْهِ. ثمَّ قَرَأَ الْعشْرَة الثَّالِثَة، وَأَبُو نعيم سَاكِت، ثمَّ قَرَأَ الحَدِيث الثَّالِث، فَتَغَيَّر أَبُو نعيم، وانقلبت عَيناهُ، وَأَقْبل عَلَى يَحْيَى فَقَالَ: أما هَذَا- وذراع أَحْمد بِيَدِهِ- فأورع من أَن يعْمل هَذَا، وَأما هَذَا- يُرِيدنِي- فَأَقل من أَن يفعل هَذَا، وَلَكِن هَذَا من فعلك يَا فَاعل، ثمَّ أخرج رجله، فرفس يَحْيَى، فَرَمَى بِهِ. فَقَالَ يَحْيَى: وَالله لرفسته أحبّ إليَّ من سَفَرِي.
وَكَانَ قَتَادَة بن دِعامة السَّدُوسي يسْأَل سعيد بن الْمسيب فيكثر، فَقَالَ لَهُ سعيد: كل مَا سَأَلتنِي عَنهُ تحفظ؟ فقَالَ: نعم، سَأَلتك عَن كَذَا وَكَذَا، فَقلت: كَذَا وَكَذَا. قَالَ سعيد: مَا ظَنَنْت أَن الله خلق مثلك.
وَكَانَ يَقُول: مَا سَمِعَتْ أذناي شَيْئا قطّ إلَّا وَعَاهُ قلبِي، وَمَا قُلْتُ لمحدثٍ قطّ: أَعِدْ عليَّ؛ فإنَّ إِعَادَة الحَدِيث تَذْهَبُ بنوره.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرَّازِيّ- أحد الْأَئِمَّة الحفَّاظ، العارفين بعلل الحَدِيث، وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل-: أَحْصَيْتُ أَنِّي مشيتُ عَلَى قَدَمَيَّ زِيَادَة عَلَى ألف فَرْسَخ. وَقلت عَلَى بَاب أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ: من أَغْرَبَ عليَّ حَدِيْثًا مُسْندًا صَحِيحا، لم أسمع بِهِ؛ فَلهُ عليَّ دِرْهَم وَقد حضر أَبُو زرْعَة، وَإِنَّمَا كَانَ مرادي أَن يُلْقي إِلَيّ مَا لم أسمع، ليقول هُوَ عِنْد فلانٍ، فَأذْهب أسمع، ومرادي أَن أستخرج مِنْهُم مَا لَيْسَ عِنْدِي- فَمَا تهَيَّأ لأحد أَن يُغربَ عليَّ حَدِيثا.
وَكَانَ أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم القَاضِي يحضر مجْلِس الحَدِيث فيحفظ خمسين وَسِتِّينَ حَدِيثا، فَيقوم فيمليها عَلَى النَّاس.
وَقَالَ ابْن الْأَخْضَر القَاضِي: سَمِعت أَبَا حَفْص بن شاهين- صَاحب النَّاسِخ والمنسوخ فِي الحَدِيث- يَوْمًا يَقُول: حسبت مَا اشتريتُ بِهِ الحبر إِلَى هَذَا الْوَقْت، فَكَانَ سَبْعمِائة دِرْهَم. قَالَ القَاضِي: وَكُنَّا نشتري الحبر أَرْبَعَة أَرْطَال بدرهم. قَالَ القَاضِي: وَقد مكث ابْن شاهين بعد ذَلِكَ يكْتب زَمنا.
وَجَاء عَن مُحَمَّد بن الْمسيب الأَرْغِيَاني أَنه قَالَ: كنت أَمْشِي بِمصْر وَفِي كُمي مائَة جُزْء، فِي كل جُزْء ألف حَدِيث.
فصل:
فَهَذِهِ نبذةٌ من أحوالِ هَؤُلَاءِ الْحفاظ، الَّذين تتنزل الرَّحْمَة بذكرهم، وَهِي مختصرة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَرَكْنَاهُ. ذكرتها لَك مَجْمُوعَة أَيهَا النَّاظر فِي هَذَا الْموضع؛ لتعرف مَنَازِلهمْ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَكَيف حَالهم فِي اجتهادهم فِي هَذَا الْعلم، والإِكباب عَلَيْهِ. فَلَعَلَّ ذَلِكَ يكون محركًا فِي المسارعة إِلَى تتبع أَثَرهم، وَالسير إِلَيْهِ، لَعَلَّك تصل إِلَى بعض بعض مَا وصلوا إِلَيْهِ، أَو إِلَى كلّه، ففضل الله وعطاؤه وَاسع، لَا زَالَ مُنْهَلًّا لَدَيْهِ.
ثمَّ وفَّق الله الْعَظِيم- وَله المِنَّة- هَؤُلَاءِ الحفَّاظ، الْأَئِمَّة النقَّاد إِلَى وُصُول مَا حفظوه إِلَيْنَا، وتقريب مَا تقلَّدوه علينا، فصنَّفوا فِي ذَلِكَ مصنفات مبتكرة، مُطَوَّلَة ومختصرة.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي أول من صنَّف الْكتب عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: عبد الْملك بن جريج.
ثَانِيهَا: الرّبيع بن صَبِيح.
ثَالِثهَا: سعيد بن أبي عرُوبَة.
حَكَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي جَامع المسانيد.
وَاخْتلف فِي ذَلِكَ مقاصدهم، وتشعَّبت آراؤهم، وَكلهَا مَقَاصِد حَسَنَة، وأفعال مستحسنة.
فَمنهمْ من رَأَى أَن تدوينه عَلَى مسانيد الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أقرب إِلَى ضَبطه، فرتَّبه كَذَلِك، كالإِمام أَحْمد بن حَنْبَل فِي مُسْنده، ونظرائه.
قَالَ الْحَاكِم: أول من صنَّف الْمسند عَلَى تراجم الرِّجَال:
عبيد الله بن مُوسَى العَبْسي، وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ.
وَمِنْهُم من رَأَى أَن تدوينه عَلَى تَرْتِيب أَبْوَاب الْفِقْه أسْرع لتنَاوله، فرتَّبه كَذَلِك.
وَقيل: أول من فعل ذَلِكَ الرّبيع بن صبِيح. وَقيل: مَالك بن أنس فِي موطئِهِ وَبِه جزم الإِمام الرَّافِعِيّ فِي أَمَالِيهِ.
ثمَّ مِنْ بعدهمْ جمع كَبِير، وجمٌّ غفير، كَعبد الرَّزَّاق، وَابْن أبي شيبَة، وَغَيرهمَا.
وهلم جرًّا إِلَى زمن الإِمامين، الحافظين، الناقدين: أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وَأبي الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج الْقشيرِي، فصنفا كِتَابَيْهِمَا الصَّحِيحَيْنِ، والتزما ألَّا يوردا فيهمَا إلَّا حَدِيثا صَحِيحا، وتلقَّتهما الْأمة بِالْقبُولِ.
ثمَّ ألَّف جمَاعَة فِي زمنهما كتبا أُخر عَلَى الْأَبْوَاب، من غير الْتِزَام فِيهَا مَا التزماه، فَلم تلتحق بهَا، كسنن أبي دَاوُد سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث السجسْتانِي، وجامع أبي عِيسَى مُحَمَّد بن سَوْرة التِّرْمِذِيّ الضَّرِير، وَسنَن أبي عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ، وَسنَن أبي عبد الله بن مَاجَه الْقزْوِينِي.
وألَّف جمَاعَة أُخر كتبا كَذَلِك: فبعضهم شَرط أَن يكون مُصَنفه مُخرَّجًا عَلَى أَحَادِيث الصَّحِيحَيْنِ أَو أَحدهمَا، ككتاب أبي نعيم، وَالْبرْقَانِي، والإسماعيلي، وَأبي عَوَانَة.
وَبَعْضهمْ شَرط أَن يسْتَدرك مَا أهمله الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، كَمَا فعل الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي الْكتاب الَّذِي سَمَّاه ب الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ.
وَبَعْضهمْ شَرط فِي مُصَنفه الصِّحَّة مُطلقًا، لَا عَلَى رأيٍ، بل عَلَى رَأْيهمْ، كصحيح إِمَام الْأَئِمَّة، أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، وصحيح أبي حَاتِم بن حبَان، الْمُسَمَّى ب التقاسيم والأنواع، وَهَذَا لم يرتبه مُصَنفه عَلَى التَّرْتِيب الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا رتَّبه عَلَى ترتيبٍ خَاص بديع.
وَبَعْضهمْ لم يَشْتَرِطْ شَرْطًا، وإنَّما أودعا فِي تصانيفهما الصَّحِيح والضعيف، مبينين ذَلِكَ، ك سنَن أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ، والسّنَن الْكَبِير لِلْحَافِظِ أبي بكر الْبَيْهَقِيّ، المرتَّب عَلَى تَرْتِيب الْمَبْسُوط الَّذِي صنَّفه عَلَى تَرْتِيب مُخْتَصر الْمُزنِيّ.
هَذَا كُله كَانَ عَلَى رَأْي السّلف الأول، يذكرُونَ الْأَحَادِيث بِالْأَسَانِيدِ فِي هَذِه التصانيف، إذْ عَلَيْهِ المُعَوَّل.
وَأما الْمُتَأَخّرُونَ، فاقتصروا عَلَى إِيرَاد الْأَحَادِيث فِي تصانيفهم بِدُونِ الْإِسْنَاد، مقتصرين عَلَى الْعزو إِلَى الْأَئِمَّة الأُوَل- إلاّ أفرادًا من ذَلِكَ وآحادًا-: كأحكام عبد الْحق الْكُبْرَى، والصُّغْرَى والْوُسْطَى.
وَعَلَى الْوُسْطَى اعتراضات لِلْحَافِظِ أبي الْحسن بن الْقطَّان، وَمَا أَكثر نَفعه. وَعَن بَعْضهَا أجوبة لبَعض الْمُتَأَخِّرين.
وَأَحْكَام الْحَافِظ أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد، الْمَعْرُوف بالضياء الْمَقْدِسِي، وَلم يتمم كِتَابه، وصل فِيهِ إِلَى أثْنَاء الْجِهَاد، وَهُوَ أكثُرها نفعا.
وَأَحْكَام الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي: الْكُبْرَى، والصُّغْرَى.
وَأَحْكَام الْحَافِظ مجد الدَّين عبد السَّلَام ابْن تَيْمِية، الْمُسَمَّى ب المُنْتَقَى، وَهُوَ كاسمه، وَمَا أحْسنه، لَوْلَا إِطْلَاقه فِي كثير من الْأَحَادِيث الْعزو إِلَى كتب الْأَئِمَّة دون التحسين والتضعيف، يَقُول مثلا: رَوَاهُ أَحْمد، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيكون الحَدِيث ضَعِيفا، وَأَشد من ذَلِكَ: كَون الحَدِيث فِي جَامع التِّرْمِذِيّ مُبَيَّنًا ضعفه، فيعزيه إِلَيْهِ من غير بَيَان ضعفه.
وَيَنْبَغِي لِلْحَافِظِ جمع هَذِه الْمَوَاضِع، وكتبها عَلَى حَوَاشِي هَذَا الْكتاب، أَو جمعهَا فِي مُصَنف لتكمل فَائِدَة الْكتاب الْمَذْكُور. وَقد شَرَعْتُ فِي كَتْبِ ذَلِكَ عَلَى حَوَاشِي نُسْخَتي، وَأَرْجُو إِتْمَامه.
وَأَحْكَام الْحَافِظ محب الدَّين الطَّبَرِيّ- نزيل مَكَّة، شرَّفها الله تَعَالَى- وَهُوَ أبسطها وأطولها.
وَأَحْكَام بَقِيَّة الْمُجْتَهدين فِي هَذَا الْفَنّ: تَقِيّ الدَّين أبي الْفَتْح الْقشيرِي، الْمُسَمَّى ب الْإِلْمَام، وشَرَطَ فِيهِ- كَمَا قَالَ فِي خطبَته- أَن لَا يُخرج إلَّا حَدِيثا قد صحَّحه أحدٌ من الْأَئِمَّة، أَو زَكَّى رُواته واحدٌ مِنْهُم، وإنْ كَانَ غَيره قد ضعَّفه.
وَأما كِتَابه الإِمام: فَهُوَ للْمُسلمين إِمَام، وَلِهَذَا الْفَنّ زِمَام، لَا نَظِير لَهُ، لَو تمَّ جَاءَ فِي خَمْسَة وَعشْرين مجلدًا، كَمَا قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه سير النبلاء. وَهُوَ حقيق بذلك؛ فقد رَأَيْت من أوَّلِه إِلَى أثْنَاء كتاب الصَّلَاة فِي الْكَلَام عَلَى رفع الْيَدَيْنِ فِي ثَلَاث مجلداتٍ ضخماتٍ، وَنقل الذَّهَبِيّ فِي الْكتاب الْمَذْكُور، عَن شَيخنَا قطب الدَّين عبد الْكَرِيم الْحلَبِي- رَحْمَة الله عَلَيْهِ- أنَّه كَمَّل تسويد هَذَا الْكتاب. وَكَذَلِكَ سمعته من بعض مَشَايِخنَا، يَحْكِي عَن الهمذاني عَن المُصَنّف أَنه أكمله.
وَالْمَوْجُود بِأَيْدِينَا مِنْهُ متواليًا مَا قَدَّمْتُه، وَقطعَة من الْحَج وَالزَّكَاة. وَلَو بُيِّض هَذَا الْكتاب، وَخرج إِلَى النَّاس، لاستغني بِهِ عَن كل كتاب صُنِّف فِي نَوعه، أَو بقيت مسودته. وَيُقَال: إِن بَعضهم أَفْسَدَ قِطْعَة مِنْهُ حسدًا. فَلَا حول وَلَا قُوَّة إلَّا بِاللَّه العليّ الْعَظِيم.
هَذَا كَلَامهم فِيمَا يتَعَلَّق بمتن الحَدِيث. وَأما متعلقاته:
فَأمر غَرِيبه:
أفرده بالتصنيف: أَبُو عُبَيْدَة معمر بن المثنَّى، وتلميذه أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام، وَالنضْر بن شُمَيْل، والهروي، وَابْن الْأَثِير، وَغَيرهم.
وَأمر أَسمَاء رُوَاته جرحا وتعديلًا:
وَأول من تكلَّم فِي ذَلِكَ: شُعْبَة، ثمَّ تبعه يَحْيَى بن سعيد القطَّان، ثمَّ أَحْمد بن حَنْبَل، وَيَحْيَى بن معِين. كَمَا قَالَه صَالح بن مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ- فأفرده بالتصنيف: يَحْيَى بن معِين- وَهُوَ أول من وضع كتابا فِي ذَلِكَ- ثمَّ البُخَارِيّ، ثمَّ أَبُو زرْعَة، وَأَبُو حَاتِم، وَالنَّسَائِيّ.
وَمن بعدهمْ: كالعُقَيْلي، والأزدي، وَابْن حبَان.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي كِتَابه الاقتراح: أَعْرَاض الْمُسلمين حُفْرَة من حفر النَّار، وَقَفَ عَلَى شَفِيْرِها طَائِفَتَانِ من النَّاس: المحدثون والحكام. قَالَ: وَكَانَ شيخ شُيُوخنَا الْحَافِظ أَبُو الْحسن الْمَقْدِسِي يَقُول فِي الرجل الَّذِي يخرج عَنهُ فِي الصَّحِيح: هَذَا جَازَ القنطرة. يَعْنِي بذلك: أَنه لَا يلْتَفت إِلَى مَا قيل فِيهِ.
قَالَ الشَّيْخ: وَهَكَذَا نعتقد، وبِهِ نقُول، وَلَا نخرج عَنهُ إلَّا ببيانٍ شافٍ، وَحجَّة ظَاهِرَة.
وَأمر صحابته أفرده بالتصنيف:
أَبُو نعيم وَأَبُو مُوسَى الأصبهانيان، وَابْن قَانِع، وَابْن عبد الْبر، وَابْن الْأَثِير، وَغَيرهم.
وَكَذَلِكَ فعلوا- قَدَّس الله أَرْوَاحهم، ونَوَّر ضرائحهم- بباقي أَنْوَاعه، وفنونه الزَّائِدَة عَلَى السِّتين نوعا، أَنْجَحَ الله قصدهم، وَلَا خَيَّبَ سعينا وسعيهم، فَلَقَد بذلوا جهدهمْ فِيمَا صنَّفوه، وأتعبوا فِكْرَهُم فِيمَا وضعوه وحرَّروه، وَلم يبْق هِمَّةُ أكثرِ الْفُضَلَاء من الْمُتَأَخِّرين إلَّا النّظر فِيمَا هَذَّبُوه، والاقتباس مِمَّا قَيَّدوه وضبطوه، ولعمري إنَّ ذَلِكَ الْيَوْم لمن أشرفِ المطالب، وأعظمِ الْمَقَاصِد.
وَكنت مِمَّن أَنعمَ الله- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَله الْحَمد والمِنَّة- عَلَيْهِ محبَّة الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة، خُصُوصا هَذَا الْعلم الشريف، فَكنت أُعلِّق فَوَائده، وأَضبط شوارده، وأُقيِّد أوابده، وأَسمع عاليه ونازله، كاشفًا عَن فنونه، باحثًا عَن علومه، أَعنِي: صَحِيحه، وَحسنه، وضعيفه، ومتصله، ومرسله، ومنقطعه، ومعضله، ومقلوبه، ومشهوره، وغريبه، وعزيزه، ومنكره، ومعروفه، وآحاده، ومتواتره، وأفراده، وشاذه، ومعلله، ومدرجه، ومبينه، ومختلفه، وموضوعه، إِلَى غير ذَلِكَ من معرفَة حَال أسانيده جرحا وتعديلًا، وأنسابًا وتاريخًا، وصدقًا وتدليسًا، واعتبارًا ومتابعةً، ووصلًا وإرسالًا، ووقفًا وانقطاعًا، وَزِيَادَة الثِّقَات، وَمَا خُولف فِيهِ الْأَثْبَات، وَمَعْرِفَة الصَّحَابَة، وتابعيهم، وتابعي التَّابِعين- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أَجْمَعِينَ.
ويَسَّر الله- تَعَالَى- لنا- سُبْحَانَهُ، وَله الْحَمد والْمنَّة- من الْكتب الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا طَالب هَذَا الْفَنّ: زِيَادَة عَلَى مائَة تأليف، كَمَا سأعدها لَك فِي آخر الْخطْبَة. وأحببت أَن أشتغل بِكِتَابَة الحَدِيث النَّبَوِيّ- عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأعظم التَّحِيَّة والإِكرام- رَجَاء شَفَاعَته فيَّ يَوْم الْقِيَامَة، يَوْم الهول والملامة، وثواب الله الْكَرِيم، وفضله العميم، وَقد قَالَ عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِيمَا روينَا عَنهُ: «اغْدُ عَالما أَو مُتَعَلِّمًا، وَلَا تَغْدُ الثَّالِثَة فَتَهْلِك».
وَفِي المعجم الْكَبِير للطبراني من حَدِيث عَطاء بن مُسلم، عَن خَالِد الحَذَّاء، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة، عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «اغْدُ عَالما، أَو مُتَعَلِّمًا، أَو مستمعًا، أَو مُحِبًّا، وَلَا تكن الْخَامِسَة فتهلك»، قَالَ: يَعْنِي بالخامسة: المُبْغِض.
ورجاءَ وُصُول هَذَا الْعلم الشريف إِلَى ذهني الركود، وقريحتي الَّتِي قَلَّ أَن تجود، وامتثالًا لقَوْل الْعلمَاء أولي الْفضل والتفضيل: التصنيف أحد طريقَي التَّحْصِيل.
وَلَا شكّ وَلَا مرية أَن أهم أَنْوَاعه- قبل الْخَوْض فِي فهمه-: معرفَة صَحِيحه من سقيمه، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي كِتَابه الاقتراح: نَحن نرَى أَن من أهم عُلُوم الحَدِيث: مَا يُؤَدِّي إِلَى معرفَة صَحِيح الحَدِيث.
فَبَقيت زَمنا مُتَحَيِّرًا فِيمَ أكتبه، وَمَا أعلِّقه وأصنِّفه، إِلَى أَن خار الله- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والخيرة بِيَدِهِ، كَمَا قَالَ فِي كِتَابه: {مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة}، وَله الْحَمد والمنَّة- بتأليف كتاب نَفِيس، لم أُسْبَقْ إِلَى وَضعه، وَلم يُنسج عَلَى منواله وَجمعه، وَأهل زَمَاننَا وَغَيرهم شديدو الْحَاجة إِلَيْهِ، وكل الْمذَاهب تعتمد فِي الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ، وَهُوَ: أَن أتكلَّم عَلَى الْأَحَادِيث والْآثَار الْوَاقِعَة فِي الْفَتْح الْعَزِيز فِي شرح الْوَجِيز، وَهُوَ الشَّرْح الْكَبِير الَّذِي صنَّفه إِمَام الملَّة والدِّين، أَبُو الْقَاسِم عبد الْكَرِيم ابْن الإِمام أبي الْفضل مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الرَّافِعِيّ، قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه، فَإِنَّهُ كتاب لم يصنف فِي الْمَذْهَب عَلَى مثل أسلوبه، وَلم يجمع أحد سلف كجمعه، فِي ترتيبه وتنقيحه وتهذيبه، ومرجع فقهائنا فِي كل الأقطار- الْيَوْم- فِي الْفَتْوَى، والتدريس، والتصنيف إِلَيْهِ، واعتمادهم فِي هَذِه الْأُمُور عَلَيْهِ.
لكنه- أَجْزَل الله مثوبته- مَشَى فِي هَذَا الشَّرْح الْمَذْكُور عَلَى طَريقَة الْفُقَهَاء الخُلَّص، فِي ذكر الْأَحَادِيث الضعيفة والموضوعات، والمنكرة والواهيات، وَالَّتِي لَا تعرف أصلا فِي كتاب حَدِيث، لَا قديم وَلَا حَدِيث، فِي معرض الِاسْتِدْلَال، من غير بَيَان ضَعِيف من صَحِيح، وسليم من جريح.
وَهُوَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إِمَام فِي الْفَنّ الْمَذْكُور، وَأحد فرسانه، كَمَا سَيَأْتِي إيضاحه فِي تَرْجَمته. فتوكلت- حينئذٍ- عَلَى الله- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي ذَلِكَ، وسَأَلْتُه التوفيقَ فِي القولِ والعملِ، والعصمة من الْخَطَأ والخَطَل.
وَكنت عزمت عَلَى أَن أرتِّب أَحَادِيث وآثار الْكتاب الْمَذْكُور عَلَى مسانيد الصَّحَابَة، فأذكر الصَّحَابِيّ وعدة مَا رَوَى من الْأَحَادِيث، وَمَا لَهُ من الْآثَار، فثنيت الْعَنَان عَن ذَلِكَ، لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن الإِمام الرَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي كثير من المواطن لَا يذكر إلَّا نَفْس الحَدِيث، ويحذف الرَّاوِي، إذْ هُوَ مَوضِع الْحَاجة، فَلَا يَهْتَدِي طَالب الحَدِيث إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يعرف مظنته.
الثَّانِي: أَن ذَلِكَ يعسر عَلَى الْفَقِيه، فإنَّه يَسْتَدْعِي معرفَة جَمِيع الْأَحَادِيث والْآثَار الْوَاقِعَة فِي شرح الرَّافِعِيّ، واستحضارها- وَهِي زَائِدَة عَلَى أَرْبَعَة آلَاف بمكررها- وَرُبمَا عسر ذَلِكَ عَلَيْهِم.
فرتبته عَلَى تَرْتِيب شرح الرَّافِعِيّ، لَا أُغَيِّر مِنْهُ شَيْئا بِتَقْدِيم وَلَا بِتَأْخِير، فأَذكر كل بَاب وَمَا تضمَّنه من الْأَحَادِيث والْآثَار.